X

أهمِّيةُ الرَّدِّ علَى المخالفِ، وبيانُ جُمْلَةٍ مِنْ ثَمَارهِ الحلقة الثالثة

أضيف فى : 11 يوليو 2015

بسم الله الرحمن الرَّحيم

الحمدُ لله ربِّ العالمين والصَّلاة والسَّلام على نبيِّنا محمَّدٍ و آله وصحبه أجمعين، وبعدُ:
فإتماماً لما سبقَ في (الحلقة الثَّانية) من نقاطٍ تتعلَّق بموضوعنا؛ فهذه هي النُّقطةُ:

الثَّالِثَةُ: وَاجبنا تجاهَ غَلَطِ وَخَطأ العَالِم السُّني.
إنَّ مِنَ الثَّوابتِ المتقرِّرة لدَى أهل السُّنة والجماعة: وُجُوبُ احْترام وتَقْدير العُلَماء، كمَا أبَنْتُهُ مُفَصَّلاً في ردِّي علَى أبِي الْحَسن المأربي في كتابِي (الفَتْح الرَّبَّانِي) (الثَّابت الأوَّل).

و إنَّ مِنَ المتقرِّر أيضاً أنَّ العصمةَ عنْهُم مَنْفيَّة، والْخَطأُ منْهُم واردٌ؛ لأنَّهم بشرٌ يصيبون ويُخْطِئونَ، وَأنَّ السُّنة قَد تَخْفَى علَى بعض أفَاضِلِ العُلماء، هَذَا الَّذي قرَّره جمعٌ من أئمَّة الدِّين، فَمِنْ ذلك:

قولُ الإمام الشَّافعيُّ:"
مَا مِنْ أحدٍ إلاَّ وتَذْهب عليه سُنَّة لرسُول الله صلَّى الله عليه وسلَّم و تَعْزُبُ عنه" (إعلام الموقعين)(2/267).


وقالَ الإمامُ ابنُ عبدالبر:" وقدْ أجَازَ عَلى كثيرٍ منْهُم جَهْل كَثيرٍ مِنَ السُّنن الوَاردة على أَلْسِنَةِ خَاصَّة العُلماء.
ولاَ أعْلَمُ أحداً منَ الصَّحابة إلاَّ وقدْ شَذَّ عنه بَين علم الخاصَّة واردة بنقلِ الآحاد أشياء حفظها غيرهُ، وذلك علَى مَنْ بَعْدَهُم أَجْوَزُ، والإحاطةُ مُمْتَنِعةٌ علَى كلِّ أحدٍ" (الاستذكار)(1/58).

وقالَ الإمامُ ابن المنذرِ:" لأنَّ أَحَداً لا يُحِيْطُ بِجَميعِ السُّنن" (الأوسط)(1/469).

وقالَ العلاَّمة الحبر محمد الأمين الشنقيطيُّ في (أضواء البيان)(7/533-534):".. والأئمَّةُ كلُّهم مُعْتَرِفُونَ بأنَّهم مَا أَحَاطُوا بِجَميعِ نُصُوصِ الوَحْي... وكَثْرَةُ عِلْمِ العَالِمِ لاَ تَسْتَلزمُ اطِّلاعه عَلَى جَمِيعِ النُّصوص....فَهَؤلاءِ الْخُلَفَاء الرَّاشِدونَ وَهُمْ هُمْ، خَفِيَ عَليهمْ كَثيرٌ مِنْ قَضَايا رَسَول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وَأَحَادِيْثِهِ، مَعَ مُلازَمَتِهِم لَهُ، وَشِدَّةِ حِرْصِهمْ عَلَى الأَخْذِ مِنْهُ، فَتَعَلَّموه مِمَّن هُو دُونَهم فِي الفَضْلِ وَالعِلْمِ.
فما ظنُّكَ بِغَيرهم منَ الأئمَّة الَّذين نَشَأَوا وَ تَعَلَّموا بعدَ تَفَرُّقِ الصَّحَابَةِ فِي أَقْطَارِ الدُّنيا؟.."، وغيرهم كثير.

وإذَا كانَ الأمْرُ كَذَلكَ فَالوَاجِبُ في مثلْ هَذا الْمَقَامِ
:

اتِّباع السُّنة وَالدَّليل الَّذي خَفِيَ عَلى ذَلك العالِم السُّني، أو الَّذي خَالَفه، لاَ التَّعصب لقولهِ وردِّ الدَّليل لأجله!! معَ بَقَاء الاحْتِرَام وَالتَّقْديرِ لَهُ.

1/ قَالَ الإمامُ الشَّافعيُّ رحمه الله مُجيباً عن مسألةٍ :" جَائزٌ، وأحبُّه ولا أكرهه؛ لثُبوتِ السُّنة فيه عنْ النَّبي صلَّى الله عليه وسلم والأخبار عَنْ غَيرِ وَاحدٍ، ومِنَ الصَّحابة....- إلى أنْ قال- وسُنَّةُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلم أَحقُّ أنْ تُتَّبع.
- ثُمَّ قال- وهكذا يَنبغي أنْ يَكُونَ الصَّالِحُونَ وَأهل العلم، فأمَّا مَا تذهبونَ إليه مِنْ تَرْكِ السُّنَّة وغيرهاِ، وَ تَرك ذَلكَ لِغَيرِ شَيءٍ بَلْ لِرَأي أنْفُسِكمْ، فَالعِلْمُ إذاً إليكم تَأتونَ منْهُ مَا شِئْتُم وَتَدَعُونَ مَا شِئْتُم؟" نَقله الإمام ابن القيم في (إعلام الموقعين)(2/269).

ونقل عنْهُ أيضاً قوله (2/270):" منْ تبِعَ سُنَّةَ رَسُولِ الله صلَّى الله وسلَّم وَافَقْتُهُ، ومَنْ خَلط فَتركها خَالفتُه حتَّى صَاحبي.
الَّذي لاَ أُفَارِقُ: الْمُلاَزِم الثَّابت مَعَ رَسُولِ الله صلَّى الله عليه وسلم وإنْ بَعُدَ.
وَ الَّذي أُفارقُ: مَنْ لَمْ يَقُلْ بِحَديث رسول الله صلى الله وسلم وَ إنْ قَرُبَ".

2/ قَالَ الإمامُ ابنُ القيم في (إعلام الموقعين)(3/294-299):" فصْلٌ: ولا بدَّ من أمرين:
أحدهما أعظمُ من الآخر؛ وهو النَّصيحة لله ولرسولهِ و كتابهِ ودينهِ، وتنْزيههِ عَنِ الأقْوَال البَاطِلةِ الْمُنَاقِضِة لِمَا بَعثَ الله به رَسُولهُ مِنَ الْهُدى وَ البَيِّنات...

والثَّانِي: مَعرفةُ فَضْل أئمَّة الإسلام ومقَاديرهم وحُقُوقهم وَمَراتِبهمْ، وأنَّ فَضْلَهُم وَعِلْمَهُم وَنُصْحَهُمْ لله وَرسولهِ لاَ يُوجِبُ قَبُولَ كُل مَا قَالُوه.

وما وقع في فَتَاويهم منَ الْمَسائلِ الَّتي خَفِي عَليهم فيها مَا جَاء به الرَّسُولُ، فَقَالُوا بِمَبلغِ عِلْمهمْ، وَالْحَقّ فِي خِلاَفهَا، لا يُوجبُ اطِّرَاح أَقْوالِهم جُمْلةً، وتَنَقُّصِهم وَالوَقيعةَ فيْهم؛ فَهَذانَ طَرَفان جَائِرَان عَنِ القَصْدِ، وَقَصْدُ السَّبِيْلِ بَيْنَهُما: فَلا نُؤثِّمْ وَ لا نَعْصِم.....
وَمَنْ لَهُ عِلْمٌ بالشَّرع والوَاقعِ يَعْلَمُ قَطْعاً:
أنَّ الرَّجُل الْجَليلَ الَّذي لَهُ فِي الإسْلاَمِ قَدمٌ صَالِحٌ، وآثارٌ حَسَنةٌ، وهُو منَ الإسلامِ وَأهلهِ بِمَكانٍ قَدْ تَكُونُ مِنْهُ الْهَفْوةُ وَالزَّلة هُو فِيْهَا مَعْذورٌ بَلْ وَمَأْجورٌ لاجتهادهِ، فَلاَ يَجوزُ أنْ يُتْبَعَ فِيْهَا، وَلاَ يَجوزُ أنْ تُهْدَرَ مَكانَتهُ وَإمَامتُهُ وَمَنْزِلتُهُ مِنْ قُلُوبِ الْمُسْلِمينَ....
- ثم ذكر مناظرة جميلة للإمام ابن المبارك مع بعض من أجاز النبيذ، ثم قال-
قالَ شيخ الإسلام: وهذا الَّذي ذكرهُ ابنُ المبارك مُتَّفقٌ عليهِ بَيْنَ العُلماءِ، فإنَّه مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ أعيانِ الأئمَّة مِنَ السَّابِقينَ الأَوَّلينَ وَمَنْ بَعْدَهم إلاَّ وَلَهُ أَقوالٌ وأفعالٌ خَفِيَ عَليهم فيها السُّنة....
وهذا بَابٌ واسعٌ لا يُحصى، مع أنَّ ذَلكَ لاَ يَغضّ مِنْ أَقْدَارهمْ، ولا يُسوغ اتَّباعهم فيْها، قال تعالى (فإنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيءٍ فَردُّوهُ إلَى اللهِ وَالرَّسُولِ).
قَال مُجاهدٌ والحكم بن عتيبة ومالك وغيرهم: ليس أحَدٌ مِنْ خَلق الله إلاَّ يُؤخذ مِنْ قَوله وَيُتْرَك إلاَّ النَّبي صلى الله عليه وسلَّم.

قال سُلَيْمَان التَّيمي: إنْ أَخَذْتَ بِرُخْصَةِ كُلِّ عَالِمٍ اجْتَمعَ فيْكَ الشَّرُّ كُلُّه.

قَالَ ابن عبدالبر: هَذَا إجْمَاعٌ لاَ أَعْلَم فيهِ خِلاَفاً....

فَإذَا كنَّا قَدْ حُذِّرنا مِنْ زَلَّةِ العَالِمِ، وَقيلَ لنَا: إنَّهَا مِنْ أَخْوَف مَا يُخَاف عَلينا، وأُمِرْنَا مَعَ ذَلكَ أن لاَ نَرْجعَ عنْهُ، فَالوَاجبُ علَى مَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإسْلاَمِ إذَا بَلغتهُ مَقَالة ضَعيفة عَن بَعض الأئمَّة: أنْ لا يَحكيها لمن يُقَلِّدها، بَل يَسْكُت عَن ذِكرها إنْ تَيَقَّن صِحَّتها، وإلاَّ تَوقَّف في قَبولِها، فَكثيراً ما يُحْكى عن الأئمَّة مَالاَ حَقيْقَةَ لَه، وَكثيرٌ مِنَ الْمَسائلِ يُخَرِّجُها بَعض الأَتْبَاعِ عَلَى قَاعِدَةِ مَتْبُوعهِ مَعَ أنَّ ذَلك الإمامَ لَو رَأى أنَّها تُفْضِي إلَى ذَلك لَمَا الْتَزَمَها.

وَ أَيضاً فَلازم الْمَذْهَب لَيسَ بِمَذْهَبٍ، وَإنْ كَانَ لاَزِمُ النَّصِّ حَقَّاً؛ لأنَّ الشَّارِعَ لاَ يَجُوزُ عَليهِ التَّنَاقض، فَلاَزِمُ قَولهِ حَقٌّ...

وقَد اتَّفقَ السَّلف على أنَّهَا بِدَعةٌ مُحدثةٌ- أي الحيل-؛ فَلا يَجُوز تَقْلِيدُ مَنْ يُفتي بها، وَيَجبُ نَقْضُ حُكْمهِ، وَلاَ يَجوزُ الدّلالَة لِلْمُقَلِّدِ عَلَى مَنْ يُفْتِي بِهَا، وَقَد نَصَّ الإمام أحْمَد عَلى ذَلكَ كُلِّه...".


3/ عَقَدَ العلامة الشَّاطبي في (الموافقات)(5/132-140) فَصْلاً حوى نَحواً مِمَّا قاله الإمام ابن القيم هُنا مِنَ التحذير مِنْ زَلَّة العَالِمِ وَعَدمِ مُتَابَعَتهِ فِيْها، فَقالَ بعد أنْ نقل عدداً من الآثار في الباب:
" هَذا كُلُّه وما أشبهه دليلٌ على طَلَبِ الْحَذرِ مِنْ زَلَّةِ العَالِمِ، وَأكثر مَا تكونُ عنْدَ الغَفْلَةِ عَن اعْتِبَارِ مَقَاصد الشَّرْع فِي ذَلك الْمَعْنى الَّذي اجتهدَ فيهِ، و الوقُوف دُونَ أَقْصَى الْمُبَالغةِ فِي البَحْثِ عَن النُّصوصِ فيْها، وهُو وإنْ كَانَ عَلَى غَيْر قَصْدٍ وَ لاَ تَعَمُّدٍ وَصَاحبهُ مَعْذُورٌ وَمَأْجُورٌ، لكنْ مِمَّا يَنْبَنِي عَليهِ فِي الاتِّباعِ لِقَولهِ؛ فِيْهِ خَطرٌ عَظِيْمٌ...
وهكَذا الْحُكُمُ مُسْتَمر فِي زَلَّتهِ فِي الفُتْيَا مِنْ بَاب أَوْلَى؛ فإنَّه رُبَّمَا خَفي عَلى العَالِم بَعض السُّنة أو بعض الْمَقَاصد العامَّة فِي خُصُوص مَسألته، فَيُفْضِي ذَلِكَ إلَى أنْ يَصيرَ قَوله شَرْعَاً يتَقلَّد، وقولاً يعتبرُ في مَسائل الْخِلاَف، فَربَّما رجَعَ عَنْهُ وَتَبيَّنَ لَه الْحقّ، فَيَفُوتهُ تَدَارك مَا سَار فِي البِلاَدِ عَنْهُ، وَيَضلّ عنْه تَلافيهِ، فَمِنْ هُنا قَالوا: زَلَّةُ العَالِمِ مَضْرُوبٌ بِهَا الطَّبْل.
إذا ثبتَ هَذا؛ فَلا بُدَّ مِنَ النَّظرِ فِي أُمُور تَنْبَنِي عَلَى هَذا الأَصْلِ:

منْها:أنَّ زلَّةَ العَالِمِ لاَ يَصِحُّ اعْتِمَادُهُا مِنْ جِهَةٍ وَلاَ الأَخْذُ بِها تَقْليداً لَه؛ وذَلكَ لأنَّهَا مَوضُوعة علَى الْمُخَالفَةِ للشَّرْع، ولذلك عُدَّت زلَّة، وإلاَّ فَلَو كانَتْ مُعْتداً بِهَا لَمْ يُجْعَل لَها هَذه الرُّتْبة، ولاَ نُسبَ إلَى صَاحبهَا الزَّلل فيْها، كمَا أنَّهُ لاَ يَنْبَغي أنْ يُنْسَبَ صَاحبهَا إلَى التَّقْصيرِ، وَلاَ أَنْ يُشَنَّع عَليهِ بِها، وَلاَ يُنْتَقص مِنْ أَجْلهَا، أوْ يُعْتقد فيْه الإقْدَام عَلَى الْمُخَالفة بَحْتاً، فَإنَّ هَذا كُلّه خِلاف مَا تَقْتضي رُتْبتُه فِي الدِّين، وقدْ تَقدَّم مِنْ كَلامِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَغيره ما يُرْشِدُ إلَى هَذا الْمَعْنى.....

ومنْها: أنَّه لاَ يَصحُّ اعْتِمَادُها خِلاَفاً فِي الْمَسائلِ الشَّرعيَّة؛ لأنَّها لَمْ تَصْدُر فِي الْحَقيقةِ عَنِ اجْتِهَادٍ، ولاَ هِيَ مِنْ مَسائلِ الاجْتِهَادِ، وَإنْ حَصلَ مِنْ صَاحبهَا اجْتِهَاد، فَهو لَم يُصادف فيها مَحلاً، فصَارت في نسبتها إلى الشَّرع كأقوالِ غَير الْمُجتهدِ، وإنَّما يُعدُّ في الخلافِ الأَقْوال الصَّادرة عن أدلَّةٍ مُعتبرةٍ في الشَّريعة، كانت مِمَّا يَقْوى أو يَضعف.
وأمَّا إذا صَدرت عَن مُجرَّد خَفَاءِ الدَّليل أو عَدمِ مُصَادفتهِ فَلاَ؛ فلذلك قيلَ: إنَّه لا يصحّ أنْ يُعْتَدَّ بِها فِي الْخِلافِ، كما لَمْ يَعتدّ السَّلف الصَّالح بالخلافِ فِي مَسألةِ رِبَا الفَضْلِ... وَأشْبَاههَا مِنَ الْمَسائلِ الَّتي خَفِيت فيْه الأدلَّة عَلَى مَنْ خَالفَ فِيْهَا..".


4/ قال العلاَّمة الحبر محمد الأمين الشنقيطيفي (أضواء البيان)(7/ 533-534) : " اعلمْ أنَّ المقلدِّين اغْتَرُّوا بِقَضيَّتين ظنُّوهما صَادِقَتين، وهُما بَعِيْدَتَان مِنَ الصِّدق...

أمَّا الأُولى منْهُما:
فَهِي ظنُّهم أنَّ الإمامَ الَّذي قَلَّدوهُ لاَ بُدَّ أنْ يَكُونَ قَد اطَّلعَ عَلى جَميع مَعانِي كِتَابَ الله، ولَمْ يَفتهُ منْها شَيءٌ، وَعلَى جَميعِ سُنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وَلَمْ يَفتهُ منْها شيءٌ.
ولذلكَ فَإنَّ كُلَّ آية وكلَّ حَديثٍ قدْ خَالفَا قَوله؛ فَلا شكَّ عنْدهم أنَّ ذَلك الإمَام اطَّلعَ عَلى تلكَ الآيَة وعَلِمَ مَعْنَاها، وعَلَى ذَلكَ الْحَديث وعَلِمَ مَعْنَاهُ، وأنَّهُ مَا تَرَكَ العَمَلَ بِهما إلاَّ لأنَّهُ اطَّلعَ عَلَى مَا هُو أَقْوَى منْهُما وَ أَرْجَح....وهَذا الظَّنُّ كَذِبٌ بَاطلٌ بِلاَ شَكٍّ.
والأئمَّة مُعْتَرِفُونَ بأنَّهمْ مَا أَحَاطُوا بِجَميعِ نُصُوصِ الوَحْي...- ثُمَّ ذَكرَ أمثلةً مِنْ خَفَاء بَعْضِ السُّنن عَلَى بَعْضِ الصَّحَابَة كَالْخُلَفاء الرَّاشدين، ثُمَّ قَال-
فَهؤلاء الْخُلَفاء الرَّاشِدُون وَهُمْ هُمْ، خَفِيَ عَليهمْ كَثِيْرٌ مِنْ قَضَايا رَسُول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وَ أَحَاديثِهِ، مَعَ مُلازَمتِهِمْ لَهُ، وَشِدَّةِ حِرْصِهمْ عَلَى الأَخْذِ مِنْهُ، فَتَعَلَّموهُ مِمَّنْ هُو دُونَهم فِي الفَضْلِ وَ العِلْمِ.
فمَا ظنُّك بغيرهمْ مِنَ الأئمَّةِ الَّذينَ نَشَأُوا وَ تَعَلَّمُوا بعدَ تَفَرُّقِ الصَّحَابَةِ فِي أقْطَارِ الدُّنيا؟...

وَالْحَاصلُ أنَّ ظنّ إحْاطَةِ الإمَامِ بِجَميعِ نُصُوصِ الشَّرعِ وَمَعَانيْها ظَنٌ لا يُغْني منَ الْحَقِّ شيئاً، ولَيْسَ بِصَحيحٍ قَطْعاً؛ لأنَّه لا شكَّ أنَّهُ يَفوتُهُ بَعض الأحَادِيث، فَلَمْ يَطَّلع عَليها، ويرويه بَعضُ العُدُولِ عَن الصَّحَابَة فَيَثْبُت عنْدَ غَيره.
وهو مَعْذُورٌ في تَرْكِ العَمَلِ بِه، بِعَدمِ اطِّلاعهِ عَليهِ مَعَ أنَّهُ بَذَل الْمَجْهُودَ فِي البَحْثِ، وَلِذَا كانَ لَه أَجْر الاجتِهَاد وَالعُذر فِي الْخَطَأ....
فَاللازِمُ هُو مَا قَالهُ الأئمَّةُ أنَفْسُهُم رَحمهم الله مِنْ أنَّهُم قَدْ يُخْطِئُونَ، ونَهوا عن اتِّباعهمْ فِي كُلِّ شيءٍ يُخَالِفُ نَصَّاً مِنْ كتَابٍ أو سُنَّةٍ.
فالْمُتَّبِعُ لَهُم حَقِيْقةً؛ هُو مَنْ لاَ يُقَدِّمُ عَلَى كِتَاب اللهِ وَ سُنَّة رَسولهِ شَيئاً، أمَّا الَّذي يُقدِّم أقَوالَ الرِّجَالِ عَلَى الكتَابِ وَصَحيحِ السُّنَّةِ، فَهُو مُخَالِفٌ لَهُم لاَ مُتَّبِعٌ لَهُم، وَدَعْواهُ اتّباعهمْ كَذِبٌ مَحْضٌ".
وقاَلَ أيضاً (7/555-556):" اعْلَمْ أنَّ مَوْقفنَا مِنَ الأئمَّة رَحمهم الله مِنَ الأَرْبَعَةِ وَغيرِهم، هُو مَوقْفُ سَائر الْمُسْلمينَ الْمُنْصِفين مِنْهُمْ، وهُو:
مُوالاَتُهُمْ، وَمَحبَّتُهُم، وَتَعْظِيْمُهُم، وَإِجْلالُهُمْ، وَالثَّنَاءُ عَليْهم، بِمَا عَليهِ مِنَ العِلْمِ وَالتَّقْوىَ، وَ اتِّبَاعُهُمْ فِي العَمَلِ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَتَقْديهمَا عَلَى رَأْيهمْ، وَتَعلُّمُ أَقْوالِهِمْ لِلاسْتِعَانة بِها عَلَى الْحقِّ، وَ تَرك مَا خَالَفَ الكتَابَ وَالسُّنَّةَ منْهَا.

وأمَّا الْمَسائلُ الَّتي لاَ نَصَّ فيْهَا فَالصَّوابُ؛ النَّظَرُ فِي اجْتِهَادهمْ فِيْهَا، وَقَدْ يَكُونُ اتِّبَاعِ اجْتِهَادهمْ أَصْوَبُ مِن اجْتِهَادنَا لأَنْفُسنَا؛ لأَنَّهُم أَكْثر عِلْماً وتَقْوىً مِنَّا، ولكنْ عَلينا أنْ نَنْظُرَ ونَحْتَاطَ لأَنْفُسِنَا فِي أَقْرَبِ الأَقْوالِ إلَى رِضَى الله، وَأَحْوطِهِا وَأَبْعَدِهَا مِنَ الاشْتِبَاهِ، كمَا قَالَ صلَّى الله عليه وسلَّم (دَعْ مَا يَرِيْبُكَ إلَى مَا لاَ يَريبكَ)...

وحقيقةُ القَولِ الفَصْلِ فِي الأئمَّة رحمهم الله:
أنَّهُم مِنْ خِيَارِ عُلَمَاء الْمُسْلمين، وأنَّهُم لَيْسُوا بِمَعْصُومينَ مِنَ الْخَطَأ، فَكُلُّ مَا أَصَابُوا فيهِ فَلَهُمْ أَجْرُ الاجْتِهَادِ وَأَجْرُ الإِصَابَةِ، وَ مَا أَخْطَأوا فيهِ فَهُمْ مَأْجُورونَ فيهِ بِاجْتِهَادِهم مَعْذُورونَ فِي خَطَئِهمْ، فَهُم مَأْجُورونَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، لا يَلْحَقُهُم ذَمٌ وَلاَ عَيْبٌ ولا نَقْصٌ فِي ذَلكَ، ولكنْ كتَاب اللهِ وَ سُنَّة نَبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم حَاكمَان عَليهمْ وَعَلَى أَقْوَالِهم كمَا لاَ يَخْفَى:
فَلاَ تَغْل فِي شَيءٍ مِنَ الأَمْرِ وَاقْتَصِد....كِلاَ طَرَفِي قَصْدِ الأُمُور ذَمِيْمُ
فَلا تَكُ مِمَّن يَذُمُّهُمْ وَ يَنْتَقِصُهُم، وَلاَ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ أَقْوالهم مُغْنِية عَن كتَابِ الله وَسُنَّةِ رَسُولهِ أوْ مُقَدَّمة عَليهمَا".

ومنْ أمثلَة هَذا الْمَقَام:

1/ قالَ الحافظُ ابنُ المنذر في (الأوسط)(1/469) بعدَ أنْ حكَى الْخِلاَفَ فِي مَسألةِ (الْمَسْحِ عَلَى العِمَامَةِ فِي الوضُوء) قالَ:" وليسَ فِي إنْكَارِ مَنْ أَنْكَرَ الْمَسْحَ عَلَى العِمَامَةِ حُجَّة؛ لأنَّ أحَداً لا يُحيطُ بِجَميعِ السُّنَن، ولعَلَّ الّذي أنكرَ ذَلكَ لَو عَلِمَ بِالسُّنَّةِ لَرَجَعَ إليْهَا، بَلْ غَيرُ جَائزٍ أنْ يظنَّ مُسْلِمٌ لَيس مِنْ أَهْلِ العِلمِ غَيرَ ذَلكَ، فَكيفَ مَنْ كَانَ مِنْ أهلِ العِلْمِ؟ وَ لاَ يَجوزُ أنْ يُظنَّ بِالقَومِ غَير ذَلكَ.

وكمَا لَمْ يَضر إنْكَار مَنْ أنكرَ الْمَسحَ عَلى الْخُفَّين، ولَمْ يُوهن تَخَلُّف مَنْ تَخلَّفَ عَنِ القَولِ بِذَلك؛ إذْ أَذِنَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم في المسحِ عَلَى الْخُفَّينِ، كَذَلك لاَ يُوهنُ تَخلُّفُ مَنْ تَخلَّفَ عَن القَولِ بِإِبَاحةِ الْمَسحِ عَلَى العِمَامَةِ".
وقال في موضع أيضاً (1/434):"...وإذا ثبتَ الشَّيءُ بِالسُّنَّةِ وَجَبَ الأَخْذُ بهِ، وَلَمْ يَكُنْ لأَحَدٍ عُذَراً في تَركهِ وَلاَ التَّخلّف عنْهُ".

2/ قال الحافظُ ابنُ عبدالبر في (الاستذكار)(1/199) متكلَّماً عن فقهِ حَديثِ (الطُّهُورُ مَاؤُه، الْحِلُّ مَيتته):" وقَد جَاء عن عبدالله بنِ عُمر، وَ عبدالله بنِ عَمرو بن العاص: كَراهية الوضُوء بماءِ البَحْر.
وليسَ فِي أَحَدٍ حجَّةٌ معَ خِلافِ السُّنَّة".
وقال في (التمهيد)(16/221) بعد حكايته الإجماع عَلى طُهُوريَّة مَاء البَحْرِ وَجَواز الوضوء به :" إلاَّ ما رُوي عنْ عَبدالله بنِ عُمر بن الخطَّاب و عبدالله بن عمرو بن العاص، فإنَّه روي عنْهُما أنَّهُما كَرِهَا الوضُوء بِمَاءِ البَحْرِ، ولَمْ يُتَابعهما أَحدٌ منْ فُقَهاء الأمْصَارِ عَلَى ذلكَ، و لا عَرَّج عليهِ وَ لاَ التَفَتَ إليه".

3/ قالَ الحافظُ النَّووي في (شرح صحيح مسلم)(8/19) عنْد شَرحهِ لِحَديثِ النَّهي عَنْ تَخْصيص يوم الْجُمعة بِصيامٍ وَعَنْ ليْلتَها بقيَامٍ، الَّذي أخرجه مسلمٌ في (صحيحه)، قَالَ:" أمَّا قَولُ مَالكٍ فِي (الْمُوطَّأ): لَم أسْمَع أحداً مِنْ أهْلِ العِلمِ والفِقهِ وَمَنْ بِه يُقْتَدى نَهى عنْ صِيامِ يَوم الْجُمعةِ، وَصِيَامُهُ حَسَنٌ، وَقَد رَأيتُ بَعْض أهْلِ العِلْمِ يَصُومُه، وَ أُرَاهُ كَانَ يَتَحَرَّاهُ.
- قَال النَّووي مُتعقِّباً- فهَذا الَّذي قَالَهُ هُو الَّذي رَآهُ، وَقَدْ رَأى غَيرهُ خِلاَف مَا رَأى هُو، وَالسُّنَّةُ مُقَدَّمةٌ عَلَى مَا رَآهُ هُو وَغَيرُهُ.
وقَدْ ثَبتَ النَّهيُ عَنْ صَومِ يَوم الْجُمُعةِ؛ فَيتعيَّن القَولُ بهِ، وَمَالِكٌ مَعْذورٌ؛ فإنَّه لَمْ يَبْلُغْه، قَالَ الدَّاوديُّ مِنْ أصْحَابِ مَالكٍ: لَمْ يَبْلُغ مَالِكاً هَذا الْحَديث، وَلَو بَلَغهُ لَمْ يُخَالفهُ".

4/ مَسألةُ (وجُوب إحدادِ المرأة عَلَى زَوجها المتوفى)، جاءت نُصوصٌ في السُّنَّة في الصَّحيحين وغيرهما تَدلُّ على ذَلكَ، و نَقل بَعضُ أهل العِلْمِ الإجْمَاعَ عَلَى وُجُوبهِ، ونَقَض بَعْضُهم الإجْمَاعَ بِأنَّهُ قَد رُويَ عَنِ الْحَسن البَصري بأنَّه لا يَرَى وجُوبَهُ، وَتعَّقبه بعضُ أهل العلمَ فقالَ:
ابنُ عبدالبرِّ وَابنُ قُدامةَ و عياض وَ القُرطبي و النَّووي و العيني: بأنَّهُ قَولٌ شَاذٌّ، زادَ ابنُ قُدامة:"وخَالَفَ السُّنَّة"، وَ زَادَ النَّوويُّ :"غريبٌ".
(الاستذكار) (5/239) و(المغني)(11/284) و(إكمال المعلم) (5/68) و(المفهم)(5/284) و (شرح صحيح مسلم) (10/112) و (عمدة القاري)(3/283).
وينظر (عمدة القاري)(8/67) و(الإعلام بفوائد عمدة الأحكام)(8/395).

قَال الحافظُ ابنُ حَجَرٍ في (الفتح)(9/486) بعدَ حِكَاية قَول الحسنِ:" ونَقلَ الْخَلاَّلُ بِسَنَدهِ عَنْ أَحْمَد عَن هُشيمٍ عَنْ دَاودَ عَنِ الشَّعبي أنَّه كانَ لاَ يَعْرِفُ الإحْدَادَ.
قَالَ أَحمدُ: مَـا كَانَ بِالعِرَاقِ أَشدّ تَبَحُّراً مِنْ هَذَين- يعني الحسن والشعبي- قالَ: وَخَفِيَ ذَلِكَ عَلْيهمَا. أهـ.
- قالَ الحافظ- ومُخَالفتُهُما لاَ تَقْدحُ في الاحْتِجَاجِ، وَ إنْ كانَ فيْهَا رَدٌّ عَلى من ادَّعى الإجْمَاعَ، وَ فِي أثَرِ الشَّعبي تعقُّبٌ علىَ ابنِ المنذرِ حَيثُ نَفى الْخَلاَفَ فِي المسألةِ إلاَّ عَن الْحَسنِ".

وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه، وصلَّى الله على نبيِّنا محمدٍ وآله وصحبه وسلَّم.

يتبع بحول الله تعالى

وكتب
عبدالله بن عبدالرحيم البخاري
15/ صفر/ 1430هـ