X

أهمِّيةُ الرَّدِّ علَى المخالفِ، وبيانُ جُمْلَةٍ مِنْ ثَمَارهِ الحلقة الرَّابعة

أضيف فى : 11 يوليو 2015

 بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ لله ربِّ العالمين والصَّلاة والسَّلام على نبيِّنا محمَّدٍ وآله وصحبه أجمعين، وبعدُ:

فهذه هي النُّقطةُ:
الرَّابعة: ذكرُ بَعض الأُمُورِ الَّتي يَنْبِغي تَوفّرهَا فِيْمنْ يَتَولَّى الرَّدَّ عَلَى الْمُخَالِفِ؟
إنَّ بيانَ الْحَقِّ لِلْخَلْقِ وَالرَّدَّ عَلَى البَاطِلِ وَأهلهِ مُهمَّةٌ عَظيمةٌ، قَامَ بها أنْبياءُ الله وَ رسُله، ومنْهُمْ خَاتِمُهُمْ عَليهم الصَّلاةُ والسَّلام، وَ وَجَبَ على أهْلِ العِلْمِ بَعْدَهُ مِمَّن وَرثوا عِلْمَ النُّبوة أنْ يَقُوموا بِهَذَا الوَاجبِ، وَ مَنْ تَمَكَّن مِنْ طُلاَّبِ العِلْمِ الْمُؤَهَّلين مِمّن اسْتَجمعَ الآلية والأهليَّة، وَ أقلُّ الأحْوَال أنْ يكونَ كذلكَ: فِي الْمَسْألةِ الَّتي يَتكلَّم فيهَا لأنَّه؛ قَدْ يُجَادِلُ العَاميُّ وَ المبتدئُ الْمُخَالِفَ، فَيْعَجَزُ عَنْ إقَامَةِ البُرْهَان عَلى صِحَّة قَولهِ وَ بُطْلان قَولِ الْمُخَالِف، فَيَضُرُّ وَ لاَ يَنْفَعُ، وَلاَ يَخْفَى مَا لِهَذا الأَمْرِ مِنْ أَثرٍ عَكسيّ علَى العَامَّة؛ لِظنِّهم بُطْلان مَقالتهِ بِسَببِ عَدَمِ قيَام الدَّليلِ عَلَى بُطْلاَن قَولِ الْمُخَالِفِ، وَ مِنْ ثَمَّ تَظْهَر مَقُولَة الْمُخَالِفِ أنَّها حقٌّ وَ صَوابٌ، وَلاَ حَولَ ولا قُوَّةَ إلاَّ بِالله.

لذا عَدَّدَ الإمامُ السِّجزيُّ في (الرَّدِّ عَلَى مَنْ أنكر الحرف والصَّوت)(ص 85-87)أَحَدَ عَشَر فَصْلاً ثُمَّ قَالَ :" فَجَمِيْعُ مَا ذَكْرتُ أنَّ بِكَ حَاجة إليهِ عنْد الرَّد عَليهم، أَحَد عَشرَ فَصْلاً مَنْ أَحْكَمَهَا تَمَكَّنَ مِنَ الرَّدِّ عَليهم، إذَا سَبَقَ لَهُ العِلْم بِمَذْهَبهِ وَمَذْهَبهمْ.
وَأمَّا العاميُّ وَالمبتدئُ سَبِيلهمَا أنْ لاَ يُصْغِيَا إلَى الْمُخَالِفِ، ولا يَحْتَجَّا عَليهِ؛ لأنَّهمَا إنْ فَعَلاَ خِيْفَ عَليهمَا الزَّلل عَاجِلاً وَ الانْفِتَال آجلاً".

لذَا فإنِّي أُذَكِّرُ هُنا ببعضِ الأُمُورِ الَّتي لابُدَّ مِنْ تَوفُّرها في الرَّادِّ، وهي:

1/ العِلْمُ الصَّحِيْحُ الْمَبْنِي عَلَى الوَحْيَين بِفَهْم السَّلفِ رَضي الله عنهم.
وهذا مطلبٌ أساس، لا مَعدلَ عنْه لِمَنْ رَامَ بَيَانَ الْحَقّ لِلْخَلقِ، وَرَدّ البَاطلِ وَدَحْض شُبه أَهْلهِ، وَفُقْدَانُهُ فُقْدانٌ للسِّلاَحِ الَّذي به يُدَافِعُ وَيُنَاضِلُ، قَال الحافظ صالح بن مهران الشيباني:" كُلُّ صاحب صناعةٍ لا يقدر أن يعمل في صناعته إلاَّ بآلةٍ، وآلةُ الإسلام العلم" (طبقات المحدثين بأصبهان)(2/216).

وقَدْ ذمَّ الله - وحذَّر- القَولَ بِغَيْر عِلْمٍ وَلاَ هُدَىً ولا كتَابٍ منير، فقال َالله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ) (الحج:3).
قال العلاَّمة السَّعديُّ في (التفسير)(ص 573):" ومنَ النَّاسِ طَائفةٌ وَ فِرْقَةٌ، سَلَكُوا طَريقَ الضَّلالِ، وَ جَعلُوا يُجَادِلُون بِالبَاطِل الْحقَّ، يُريدونَ إِحْقَاقَ البَاطلِ، وَإبْطَالَ الْحقِّ، وَالْحَالُ أنَّهُم: فِي غَايَةِ الْجَهْلِ، مَا عنْدَهُم مِنَ العِلْمِ شَيءٌ، وَغَايةُ مَا عنْدَهُم تَقليد أئمَّة الضَّلال، مِنْ كُلِّ شَيطانٍ مَريدٍ، مُتَمَرِّدٍ عَلَى الله وَ عَلَى رُسُلهِ، مُعَانِدٍ لَهُم، قَد شَاق اللهَ وَ رَسُولَهُ، وَصَار مِنَ الأئمَّة الَّذين يَدْعُونَ إلَى النَّار".

وقال: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ) (الحج:8)
قَال الحافظُ ابنُ كثير في (التفسير)(3/218):" أي بِلاَ عَقْلٍ صحيحٍ، ولا نَقْلٍ صَريحٍ، بَلْ بِمُجَرَّدِ الرَّأي والْهَوى".
وقال العلاَّمة السعدي في (التَّفسير)(ص 574):" أيْ يُجادِلُ رُسُلَ اللهِ وَأَتْباعَهُمْ بِالبَاطلِ؛ لِيُدْحِضَ بِه الْحقَّ. (بِغَيْرِ عِلْمٍ) صَحيحٍ، (وَلاَ هُدىً) أي: غَير مُتَّبعٍ فِي جِدَالهِ هَذا مَنْ يَهديهِ، لاَ عَقْلٍ مُرْشِد، وَلاَ مَتْبوع مُهْتدٍ. (وَلاَ كِتَابٍ مُنِير) أي: واضحٍ بَيِّن، فَلاَ حُجَّة عَقليَّة وَلاَ نَقْلِيَّة، إنْ هِي إلاَّ شُبُهات يُوحيهَا إليه الشَّيطان".

قال الإمامُ شيخ الإسلام ابن تيميَّة:" كُلُّ مَنْ جَادلَ فِي اللهِ بِغَيرِ هُدىً وَلاَ كِتَابٍ مُنيرٍ؛ فَقَدْ جَادَلِ بِغَيرِ عِلْمٍ" (درء تعارض العقل والنقل)(5/265).

ومِنْ مَقَالاتِ الأئمَّة فِي هَذهِ النقطة، ما يلي:

أ/ قال الإمامُ الآجريُّ في (أَخْلاَق العُلماء)(ص 62-63) تَحتَ فَصلٍ عَقدهُ بعُنوان (صِفَةُ مُنَاظَرَةِ هَذا العَالِمِ إذَا احْتَاجَ إلَى الْمُنَاظَرةِ):" وَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أنَّه رُبَّما احْتَجَّ أَحَدُهما بِسُنَّةٍ عَنْ رَسُولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم عَلَى خَصْمهِ؛ فَيَرُدّها عليهِ بِغَيْرِ تَمَيْيزٍ، كُلُّ ذَلكَ يَخْشَى أنْ تَنْكَسِرَ حُجَّتهُ، حَتَّى إنَّه لعلَّه أنْ يَقُولَ بِسُنَّةٍ عَن رَسُولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثَابِتَةٍ فَيَقُولُ: هَذَا بَاطِلٌ، وهَذَا لاَ أَقُولُ بِهِ، فَيَرُدَّ سُنَّةَ رَسُولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم بِرَأْيهِ بَغْيرِ تَمْييزٍ.
وَمِنْهم مَنْ يَحْتَجُّ فِي مَسألةٍ بِقَولِ صَحابِيٍّ؛ فَيَرُد عليهِ خَصمهُ ذَلكَ وَلاَ يَلْتَفت إلَى مَا يُحْتَجُّ عَليهِ، كُلُّ ذَلكَ نُصْرَة منْه لقولهِ، لاَ يُبَالِي أنْ يَردَّ السُّنَنَ وَالآثَار".

ب/ قال الإمامُ ابنُ بطة العُكبري في (الإبانة الكبرى)(2/540-541):"... اعْلَم يَا أخِي- رحَمك الله- أنَّ الَّذي تُبْلَى بهِ مِنْ أهْلِ هَذا الشَّأن لَنْ يَخْلُو أنْ يكُونَ واحِدَاً مِنْ ثَلاثة:

إمَّا رجُلاً قَدْ عَرَفْتَ حُسْنَ طَريقتهِ وَجَميلَ مَذْهبهِ وَمَحبَّتهِ للسَّلاَمَةِ وَقَصده طَريق الاسْتِقَامة، وَإنَّما قَدْ طَرَقَ سَمْعَه مِنْ كَلام هَؤلاء الَّذين قَدْ سَكَنَت الشَّياطِينُ قُلُوبَهُم، فهَي تَنْطِقُ بِأَنْواعِ الكُفْر عَلى ألسِنَتِهمْ، وَليس يَعْرِفُ وجْهَ الْمَخْرَجِ مِمَّا قَدْ بُليَ بِهِ، فَسُؤُالُهُ سُؤَال مُسْتَرشِدٍ يَلْتَمِسُ الْمَخْرَجَ مِمَّا بُلِيَ بهِ، وَالشِّفَا مِمَّا أُوذِيَ ... (بياضٌ في الأصل). . . إلَى عِلْمِكَ حَاجته إليْكَ حَاجَةَ الصَّادي إلى الْمَاءِ الزلاَل، وَ أنتَ قَد اسْتَشعرتَ طَاعتَهُ وَ أَمِنْتَ مُخَالفتهُ؛ فَهَذا الَّذي قَد افْتُرِضَ عَليكَ تَوفيقهُ وَ إرْشَادهُ مِنْ حَبَائِلِ كيْدِ الشَّياطين، وليَكُن مَا تُرْشِدُه بِه، و تُوقفهُ عَليهِ مِنَ الكتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالآثَار الصَّحيحةِ مِنْ عُلمَاء الأُمَّة منَ الصَّحَابة والتَّابعين، وَكُلّ ذَلك بالْحِكْمَة وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسنَةِ.
وَ إيَّاكَ وَالتَّكَلُّف لِمَا لاَ تَعْرفهُ، وَتَمَحُّل الرَّأي، والغَوصَ عَلى دَقِيقِ الكَلامِ؛ فَإنَّ ذَلكَ مِنْ فِعْلكَ بِدْعة، وَإنْ كُنتَ تُريدُ به السُّنَّة، فَإنَّ إِرَادَتَكَ لِلْحَقِّ مِنْ غَيْرِ طَريقِ الْحَقِّ بَاطِل، وَكَلامَكَ عَلَى السُّنَّةِ مِنْ غَيْرِ السُّنَّةِ بِدْعَة. وَلا تَلتَمس لصَاحبك الشِّفَاء بِسُقْمِ نَفْسكَ، وَلا تَطْلب صَلاحَهُ بِفَسَادِكَ؛ فإنَّه لاَ يَنْصَحُ النَّاسَ مَنْ غَشَّ نَفْسَهُ، وَمَنْ لاَ خَيْر فيهِ لِنَفسهِ لاَ خَيْرَ فِيهِ لِغَيرهِ، فَمَن أَرَادَ اللهُ وفَّقَهُ وَسَدَّدهُ ، وَمَن اتَّقَى الله أَعَانَهُ وَنَصَرَهُ ".

ج/ قَالَ شيخُ الإسلام ابن تَيميَّة في (درء تَعارض العَقل والنَّقل)(6/210-21):" الرَّدُّ علَى أهلِ البَاطلِ لا يكونُ مُستوعباً إلاَّ إذا اتُّبعت السُّنَّة منْ كُلِّ الوجُوه،وإلاَّ فمَنْ وَافق السنَّة مِنْ وَجهٍ وَخَالَفَهَا مِنْ وَجْهٍ، طَمع فيهِ خُصومه مِنَ الوَجْهِ الَّذي خَالفَ فيه السُّنَّة، واحْتجوا عليه مَا وافقهم عليه منْ تِلك المقدِّمات المخالفةِ للسُّنَّةِ.
وقَد تَدبَّرتُ عامَّة ما يَحْتجُّ به أهْل البَاطِل عَلَى مَنْ هو أَقْرب إلى الْحَقِّ منْهم، فَوجدتُّه إنَّما تَكُونُ حُجَّة البَاطل قويَّة لِمَا تَركوه مِنَ الْحَقِّ الَّذي أَرْسَلَ الله به رَسُوله وأَنْزَل به كتَابه، فَيَكُون مَا تَركُوهُ مِنْ ذَلك الْحَقّ مِنْ أَعْظم حُجَّةِ الْمُبْطِل عَليهم..".

وقال أيضاً كما في (المجموع)(3/245):" ومما يجبُ أن يعلم أنَّ الذي يريد أن ينكر على النَّاس ليس له أنْ ينكر إلاَّ بِحُجَّةٍ وَبَيَانٍ..".

وقالَ أيضاً في (الرَّدِّ على المنطقيين)(ص 273):" فليسَ لأحدٍ أنْ يتَكلَّم بِلاَ عِلْمٍ، بَلْ يُحْذَرُ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ فِي الشَّرْعِيَّات بِلاَ عِلْمٍ، وفي العَقليَّات بِلاَ عِلْمٍ؛ فَإنَّ قوماً أرَادُوا بِزَعْمِهم نَصر الشَّرعِ بِعُقُولِهم النَّاقِصة وَ أَقْيِسَتِهِمُ الفَاسِدة، فَكان مَا فَعلوه مِمَّا جَرَأَ الْمُلْحِدينَ أَعْدَاء الدِّين عليهِ، فَلاَ لِلإسْلاَمِ نَصَرُوا، ولاَ لأَعْدَائهِ كَسَرُوا ".

وقال فيه أيضاً (ص 536-537):" ولَهذا كَانت مُنَاظرة كَثيرٍ مِنْ أهْل الكَلاَمِ لَهُمْ مُنَاظرة قَاصرة، حيثُ لَم يَعرف أولئك حَقيقةَ مَا بَعثَ الله به رُسُلَه، وَ أَنْزلَ بِه كُتُبه، وَمَا ذمَّهُ مِنَ الشِّركِ، ثُمَّ يَكْشِفُون بِنُور النُّبوَّةِ مَا عنْدَ هَؤلاء مِنَ الضَّلاَلِ، كمَا نَاظَرهم الشَّهْرستاني في كتاب (الملل والنحل) لِمَّا ذَكر فَصْلاً فِي الْمُنَاظَرةِ بَيْن الْحُنَفَاءِ وَبَيْنَ الصَّابِئَةِ الْمُشْركين؛ فَإنَّ الْحُنَفَاءَ يَقولون: بِتَوسُّط البَشَرِ، وَ أولئكَ يَقُولونُ بِتَوسُّط العُلْويَّات، فأخذَ يُبَيِّنُ أنَّ القَولَ بِتَوسُّط البَشَرِ أَوْلَى مِنَ القَولِ بِتَوسُّطِ العُلُويَّات.
ومعْلُومٌ أنَّه إذَا أخذَ التَّوسُّط عَلى مَا يَعْتَقِدُونَهُ فِي العُلويَّات كَانَ قَولهم أَظْهر، فَكَانَ رَدُّه عَليْهم ضَعيفاً؛ لِضَعْفِ العِلْمِ بِحَقيْقَةِ دِيْنِ الإسْلاَمِ...".

وقال أيضاً في (درء تعارض العقل والنقل)(1/357):" كُلُّ مَنْ لَمْ يُنَاظِر أَهْلَ الإلْحَادِ وَالبِدَعِ مُنَاظَرةً تَقْطَعُ دَابِرَهُم، لَمْ يَكُنْ أَعْطَى الإسْلاَمَ حَقَّه، وَ لاَ وفَّى بِمُوجِبِ العِلْمِ وَالإيْمَانِ، وَلاَ حَصَلَ بِكَلاَمهِ شِفَاءُ الصُّدُورِ وَطُمَأنِيْنَة النُّفُوس، ولاَ أَفَادَ كَلامهُ اليَقِيْن".

وَقَدْ عِيْبَ عَلَى بَعْضِهم أنَّه:" كَانَ يُقَرِّرُ فِي مَسَائل كَثِيرة مَذاهبَ الْخُصُومِ وَشُبَهَهم بِأَتَمِّ عِبَارَةٍ، فَإذَا جَاء إلَى الأَجْوبَةِ اقْتَنَعَ بِالإِشَارَةِ " قالَه العَلاَّمة أبو شامة في (ذيل الروضتين)(ص 68).

2/ التَّجرُّد لله في ردِّه، بِأَنْ يَكُون القَصْد وَالْمُراد إظهار الحقِّ والوصول إليه، لا الْمُغَالبة وَالْمُخَاصمة.
الانتصارُ لِلحقِّ وَبَيانُهُ، وَدَحْضُ البَاطِلِ وَردّه، هُو المقصدُ وَالْمُرادُ لِمَنْ أبَانَ الْحقَّ وردَّ الباطل، وقِيَام المرءِ الْمُتَّقي بِذَلك إنَّما هُو للهِ لاَ لِحظٍّ فِي النَّفس أو المغالبة ونَحوها.
ومعلومٌ أنَّ الشَّيطانَ حَريصٌ كُلَّ الْحِرصِ عَلى أنْ يُفْسِدَ النِّيَّةَ مِنْ إخْلاَصهَا لِبَارِئهَا، فَعَلَى المرءِ أنْ يَتَذكَّر دَوْماً أنَّ مَا يَقُومُ بهِ فِي هَذا الْمَقَامِ إنَّمَا هُو قُرْبَةٌ يَتَقرَّب بها للهِ، وَ القُرَبُ لا يَقْبَلُها اللهُ إلاَّ إنْ كَانَتْ لَه خَالصة (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ)(الزمر: من الآية3).

ومنْ مَقَالات الأئمة في هذا المقام:

أ/ قولُ الإمامِ الآجريُّ في (أخلاق العُلماء)(ص 62-63) و قَدْ سَبَقَ فِي (النُّقْطة الأولى)، وَلا يَمْنَعُ مِنْ تِكراره لفائدتهِ قال:" وَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أنَّه رُبَّمااحْتَجَّ أَحَدُهما بِسُنَّةٍ عَنْ رَسُولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم عَلَى خَصْمهِ؛ فَيَرُدّها عليهِ بِغَيْرِ تَمَيْيزٍ، كُلُّ ذَلكَ يَخْشَى أنْ تَنْكَسِرَ حُجَّتهُ، حَتَّى إنَّه لعلَّه أنْ يَقُولَ بِسُنَّةٍ عَن رَسُولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثَابِتَةٍ فَيَقُولُ: هَذَا بَاطِلٌ، وهَذَا لاَ أَقُولُ بِهِ، فَيَرُدَّ سُنَّةَ رَسُولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم بِرَأْيهِ بَغْيرِ تَمْييزٍ.
وَمِنْهم مَنْ يَحْتَجُّ فِي مَسألةٍ بِقَولِ صَحابِيٍّ؛ فَيَرُد عليهِ خَصمهُ ذَلكَ وَلاَ يَلْتَفت إلَى مَا يُحْتَجُّ عَليهِ، كُلُّ ذَلكَ نُصْرَة منْه لقولهِ، لاَ يُبَالِي أنْ يَردَّ السُّنَنَ وَالآثَار".

ب/ قالَ الإمامُ ابنُ بطة العُكبري في (الإبانة الكبرى)(2/541-542):"... اعْلَم يا أخي - رَحِمك الله- أنَّ الَّذي تُبلْى بِهِ مِنْ أَهْلِ هَذا الشَّأن لَنْ يَخْلُو أنْ يكونَ واحداً مِنْ ثَلاثة...
وَ رَجُلٌ آخَر يَحْضُر فِي مَجْلسٍ أَنْتَ فِيْهِ حَاضِرٌ تَأْمَنُ فِيْهِ عَلَى نَفْسِكَ، وَيَكْثر نَاصِروكَ وَمُعِيْنوكَ، فَيَتَكلَّمُ بِكَلامٍ فِيْه فِتْنة وَبَليَّةٌ عَلَى قُلوبِ مُسْتَمعيهِ؛ لِيُوقعَ الشَّكَّ فِي القُلوبِ، لأنَّهُ هُو مِمَّنْ فِي قَلبهِ زَيغٌ يَتَّبعُ الْمُتَشَابِهِ ابْتَغَاءَ الفِتْنَةِ وَالبِدْعَةِ، وَقَد حَضرَ مَعَكَ مِنْ إِخْوَانِكَ وَأهْلِ مَذْهَبكِ مَنْ يَسْمعُ كَلاَمهُ ، إلاَّ أنَّهُ لاَ حُجَّةَ عِنْدَهُم عَلَى مُقَابَلتِهِ، وَلاَ عِلْمَ لَهُم بِقَبِيْحِ مَا يَأتِي بِهِ، فَإنْ سَكَتَّ عَنْهُ لَمْ تَأْمَنْ فِتْنَتَهُ بِأنْ يُفْسِدَ بِهَا قُلُوب الْمُسْتَمِعينَ، وَ إدْخَالِ الشَّكِّ عَلَى الْمُسْتَبصِرِين، فَهَذا أيضاً مِمَّا تَرُدُّ عَليهِ بِدْعَتَهُ، وَ خَبيثَ مَقَالتِهِ، وَتَنْشُرُ مَا علَّمَكَ اللهُ مِنَ العِلْمِ وَالْحِكْمَةِ.
وَ لاَ يَكُن قَصْدكَ فِي الكَلاَمِ خُصُومتهُ وَلاَ مُنَاظَرتهُ، وَليَكُنْ قَصْدُكَ بِكلامكِ خَلاَص إخْوَانِكَ مِنْ شَبكتِهِ، فَإنَّ خُبَثَاءَ الْمَلاَحِدةِ إنَّمَا يَبْسُطُونَ شِبَاك الشَّيَاطين؛ لِيَصِيْدُوا بِهَا الْمُؤْمِنين، فَلْيَكُن إِقْبَالكَ بِكَلاَمكَ، وَنَشْر عِلْمِكَ وَحِكْمَتِك، وَبِشْرِ وَجْهِكَ، وَفَصيحِ مَنْطِقكَ عَلَى إخْوَانِكَ، وَمَنْ قَدْ حَضَرَ مَعكَ لاَ عَليهِ، حَتَّى تَقْطَعَ أُوَلئكَ عَنْهُ، وَتَحُول بَيْنَهُم وَبَيْنَ اسْتِمَاعِ كَلاَمهِ، بَلْ إنْ قَدرتَ أنْ تَقْطَعَ عَليهِ كَلاَمَهُ بِنَوعٍ مِنَ العِلْمِ تُحَوِّلُ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ عَنْهُ، فَافْعَلْ...".

ج/ قَالَ الإمَامُ
السِّجزيُ في رسالتهِ ( الرَّد على مَنْ أَنْكَرَ الْحَرْفَ والصَّوت) (ص 235): " وَ ليَكُنْ قَصد مَنْ تكلَّم في السُّنَّة اتَّباعها وقَبُولها لاَ مُغَالَبةالْخُصُوم، فَإنَّه يُعَانُ بذلكَ عَليهم، وإذَا أرَادَ الْمُغَالبة رُبَّما غُلِبَ".

د/ قالَ العلاَّمة الشَّاطبي في (الاعتصام)(2/236-237):"..وأمَّا ذُو الزَّيغِ، فَإنَّ هَواهُ لاَ يُخلِّيه إلَى طَرحِ الْمُتَشابِه، فَلاَ يَزالُ فِي جِدَالٍ عليهِ وَطَلبٍ لِتَأويلهِ، وَيَدلُّ عَلى ذَلكَ أنَّ الآيةَ نَزلَتْ فِي شَأنِ نَصَارى نَجْران، وَ قَصْدهم أنْ يُنَاظِرُوا رَسُولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم فِي عِيْسى بنِ مَرْيم عَليهما السَّلام...والْحَاصلُ أنَّهُم إنَّما أَتَوا لِمُنَاظَرةِ رَسُولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم وَمُجَادلتهِ، لاَ يَقْصِدُوَن اتِّباعَ الْحَقِّ.
والْجِدَالُ عَلَى هَذا الوَجْهِ لاَ يَنْقَطِعُ... وشأنُ هَذا الْجِدالِ أنَّهُ شَاغِلٌ عَنْ ذِكْرِ الله وعَنِ الصَّلاَةِ، كالنَّرد وَ الشَّطَرنْجِ وَغَيرهما..".

هـ/ قال العلاَّمة ابنُ النَّجَّارِ في (شَرحِ الكَوكب المنير)(3/361) نَقْلاً عن أبِي مُحمَّد الجوزي أنَّه قالَ:" أَوَّلُ مَا تَجِبُ البُدَاءَةُ بِهِ: حُسْنُ القَصْدِ فِي إظْهَارِ الْحقِّ، طَلباً لِمَا عِنْدَ الله تعالى، فَإنْ آنسَ مِنْ نَفسهِ الْحَيْدَ عَن الغَرَضِ الصَّحيحِ فَلْيَكُفها بِجهدهِ، فَإنْ مَلَكهَا، وَإلاَّ فَلْيَتْرُكِ الْمُنَاظرةَ فِي ذَلكَ الْمَجْلِس..".

وقالَ (3/364):" فأمَّا إذَا كانَ الْجَدَلُ عَلى وَجْهِ الغَلَبَةِ وَالْخُصُومَةِ وَالغَضَبِ وَ وَجْهِ الْمِرَاءِ...فَمُزيلٌ عَنْ طَريقِ الْحقِّ، وَإليهِ انْصَرفَ النَّهي عَنْ (قِيْلٍ وقَال)..".

و/ قال العلاَّمة الشَّوكاني في (أدبِ الطلب)(ص 81):" وكثيراً مَا تَجِدُ الرَّجُلين الْمُنْصِفَين مِنْ أَهْلِ العِلْمِ قَد تَبَاريَا فِي مَسألةٍ وَ تَعارضَا فِي بَحثٍ، فَبَحثَ كُلُّ وَاحدٍ مِنْهُما عَنْ أَدِلَّةِ مَا ذَهبَ إليْهِ، فَجَاءَا بِالْمُتَردِّيَةِ وَ النَّطِيْحَةِ، عَلى عِلْمٍ مِنْهُ بِأنَّ الْحقَّ فِي الْجَانِبِ الآخَر، و أنَّ مَا جَاء بهِ لاَ يُسْمِنُ وَ لاَ يُغْنِي مِنْ جُوعٍ.
وَهَذا نَوعٌ مِنَ التَّعَصُّبِ دَقِيقٌ جدَّاً يَقَعُ فِيْهِ كَثيرٌ مِنْ أهْلِ الإنْصَافِ، ولا سيَّمَا إذَا كانَ بِمَحْضر النَّاسِ، وَ أنَّه لا يَرْجِعُ الْمُبْطِلُ إلَى الْحقِّ إلاَّ فِي أَنْدَرِ الأَحْوَالِ، وَغَالب وقُوع هَذا فِي مَجَالسِ الدَّرْسِ وَمَجامعِ أهْلِ العِلْمِ".

3/ العَدْلُ.
إنَّ الله عزَّ في عُلاه حَكَمٌ عدلٌ، حرَّم الظُّلمَ علىَ نَفْسهِ وَجَعَلهُ بَيْنَ عِبَاده مُحرَّماً، لذَا فَإنَّ الظُّلم مُحَرَّمٌ علَى الإطْلاَقِ، وأنَّ الواجبَ القيام بِضدِّه ألاَ وَهُو (العَدْلُ)، لأنَّ:"الإنْسَانَ خُلقَ ظَلوماً جهولاً، فالأصلُ فيه عدَمُ العِلْم، وميلُه إلى ما يَهْواهُ مِنَ الشَّرِّ، فيَحْتَاجُ دائماً إلى عِلْمٍ مُفصَّلٍ يَزُولُ به جَهلهُ، وَ عَدلٍ فِي مَحبَّته وبُغضهِ وَ رضاهُ وغضبهِ، وفعلهِ وَتركهِ وَ إعطائهِ وَمنعهِ، وَ كُلّ ما يَقُولهُ وَيَعْملهُ يَحْتاجُ فيهِ إلَى عَدْلٍ يُنَافِي ظُلمه، فإنْ لَمْ يَمُنّ اللهُ عليهِ بِالعِلْمِ الْمُفَصَّل والعَدْلِ الْمُفَصَّل، وإلاَّ كانَ فيهِ مِنَ الْجَهْلِ وَالظُّلمِ مَا يَخْرُجُ به عَن الصِّراط الْمُسْتَقيم".
قَاله شيخ الإسلام ابن تيمية في (قاعدة في أنواع الاستفتاح في الصلاة)(ص40).

و لَمَّا كانَ بَيانُ الْحَقِّ لِلْخَلْقِ وَالرَّد عَلى البَاطلِ مُهمَّة شَريفة نَبيلة؛ فَإنَّ ذلكَ لاَ يُبِيْحُ ظُلْمَ الْمَرْدُودِ عليهِ وَلَو كَانَ كَافراً!! وعَلَى هَذا الْميزان العَدل قَامَ أَهْلُ السُّنَّةِ فِي رُدُودِهم عَلى الْمُخَالِفينَ، بِعِلْمٍ وَعَدْلٍ.

قالَ شَيخُ الإِسْلاَمِ ابنُ تيميَّة في (الرَّد على الإخنائي) (ص 242):" وهَذَا كلُّه مِمَّا نَهى عنْهُ رَسُولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم فِي الأَحَاديثِ الصَّحيحةِ، فَكَيْفَ يُشبَّهُ مَا نَهَى عَنْهُ وَحَرَّمَهُ بِمَا سَنَّهُ وَفَعَلهُ؟ وَهَذا الموضعُ يَغْلَطُ فيْهِ هَذا الْمُعْتَرِضُ وأمثاله، لَيسَ الغَلَطُ فِيْهِ مِنْ خَصَائصهِ، وَنَحْنُ نَعْدِلُ فيْهِ وَنقصدُ قَول الْحقِّ والعَدْل فيهِ كمَا أمر الله تَعالى، فإنَّه أمرَ بِالقِسْطِ علَى أعدائِنَا الكُفَّار، فَقَالَ سُبْحَانَهُ (كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)- (المائدة: من الآية8)-، فكَيْفَ بِإخْوانِنَا الْمُسْلِمينَ، وَالْمُسْلمونَ إِخْوةٌ، واللهُ يَغفرُ لَهُ ويُسدِّده، ويوفّقهُ وَ سائر إخْواننَا الْمُسْلِمينَ".

وقَالَ أيضاً كما في (مجموع الفتاوى)(3/245):"..هَذا وأنَا فِي سِعَةِ صَدْرٍ لِمَن يُخَالفني، فإنَّهُ وَإنْ تَعدَّى حُدُود الله فِيَّ بِتَكْفِيرٍ أو تَفْسيقٍ أوْ افْتَراءٍ أو عَصبيَّةٍ جَاهليَّةٍ: فَأنَا لاَ أَتَعَدَّى حُدُودَ الله فيهِ، بَلْ أضْبِطُ مَا أَقُولهُ وَ أَفعلهُ، وَ أَزنُهُ بِمَيزانِ العَدْلِ، وَأجعلهُ مُؤْتَماً بالكتَابِ الَّذي أنزلَهُ الله، وَجَعَلهُ هُدىً للنَّاسِ، حَاكماً فيْمَا اخْتَلَفُوا فيهِ، قالَ الله تعالى (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)- (البقرة: من الآية213)-، وقال تعالى (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ) -(النساء: من الآية59)- وقال تعالى (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ )- (الحديد: من الآية25)-، وذلك أنَّك ما جزيتَ من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) - (النحل:128)-، وقال تعالى( وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)- (آل عمران: من الآية120)-".

ومن المقالات في هذه النقطة زيادةً على ما سبقَ:

أ/ قال شيخُ الإسلام ابن تيميةفي (الجواب الصِّحيح)(1/107-108):" ولَمَّا كَانَ أَتْبَاعُ الأنَبياء هُم أهْلُ العِلْمِ وَالعَدْلِ، كانَ كَلام أهْل الإسلامِ وَالسُّنَّةِ مَعَ الكُفَّارِ وَأهلِ البِدَعِ بِالعِلْمِ وَالعَدْلِ لاَ بِالظَّن و مَا تَهوىَ الأَنْفُس، ولِهَذا قالَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم (القُضَاةُ ثلاثةٌ..)، فإذَا كانَ مَنْ يَقْضي بَيْنَ النَّاسِ فِي الأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ وَالأَعْرَاضِ إذَا لَمْ يَكُن عَالِمَاً عَادِلاً كَانَ فِي النَّارِ، فَكَيفَ بِمَنْ يَحْكُمُ فِي الْمِلَلِ وَالأَدْيَانِ وَأُصُول الإيْمَانِ وَالْمَعَارِفِ الإلهيّة وَالْمَعالِمِ العَليّة بِلاَ عِلْمٍ وَلاَ عَدْلٍ؟".

وقال أيضاً في (الرَّدِّ على الإخنائي)(ص 110):" وليسَ الْمَقْصُودُ أيْضَاً العُدْوانُ عَلَى أَحَدٍ- لاَ الْمُعْتَرِضِ وَلا غَيرِهِ- وَ لاَ بَخْسِ حَقِّه وَلاَ تَخْصيصهِ بِمَا لاَ يَخْتَصُّ بِهِ مِمَّا يَشْركهُ فِيْهِ غَيرهُ، بَلْ الْمَقُصود الكَلاَم بِمُوجبِ العِلْمِ وَ العَدْلِ وَ الدِّيْنِ كمَا قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)-(المائدة: من الآية8)-".

ب/ قَالَ الإمامُ ابنُ رجبٍ الحنبلي في (جامع العلوم والحكم)(1/372) شارحاً حديث (لا تَغْضَبْ) عنْدَ البُخاريّ، قَال:" وكَانَ مِنْ دُعَائهِ صلَّى الله عليه وسلَّم (أَسْأَلُكَ كَلِمةَ الْحَقِّ فِي الغَضَبِ وَالرِّضا)، وهَذا عَزيزٌ جدَّاً، وهو أنَّ الإنْسَانَ لاَ يَقُولُ سِوى الْحَقِّ سَواء غَضِبَ أو رضيَ، فإنَّ أكثرَ النَّاسِ إذَا غضبَ لا يَتَوقَّف فِيْمَا يَقُولُ".

ج/ قال الإمامُ ابنُ القيم في (إعلام الموقعين)(3/106-107):"... واللهُ تعالى يُحبُّ الإنْصَافَ، بَلْ هُو أَفضلُ حِليةٍ تَحلَّى بِهَا الرَّجُل، خُصوصاً مَنْ نَصَّبَ نَفْسه حَكَماً بَين الأَقْوالِ وَالْمَذاهبِ، وقَد قالَ الله تعالى لرسوله (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ )-(الشورى: من الآية15)- فَورثَةُ الرَّسُولِ مَنْصبهمْ العَدل بَيْنَ الطَّوائف و ألاَّ يَميلَ أَحَدهُم مَعَ قَريبهِ وَذَوي مَذْهبهِ وَطَائفتِهِ وَ مَتْبُوعهِ، بَلْ يَكُونُ الْحَقّ مَطْلوبهُ، يَسِيْرُ بِسيرهِ، وَيَنْزِلُ بِنُزُولهِ، يَدينُ بدينِ العَدْلِ وَالإنْصَافِ وَيَحْكِّمُ الْحُجَّة، وما كانَ عليهِ رَسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأَصْحَابُهُ؛ فَهُو العِلْمُ الَّذي قَد شَمَّر إليهِ، وَ مَطْلُوبُهُ الَّذي يَحومُ بِطَلبهِ عليهِ، لا يثْني عنَانهُ عَذْل عَاذلٍ، وَلا تَأْخذه فيهِ لَومَةُ لائِمٍ، وَلاَ يَصدُّه عَنْهُ قَولُ قَائلٍ".

وقالَ كَلاماً نفيساً جدَّاً في (الرِّسَالة التَّبوكيَّة)(ص 58-64):" ومِنَ العَجبِ أنْ يَدَّعِي حُصُولَ هَذه الأَوْلويَّة وَالْمَحبَّة التَّامَّةِ مَنْ كَانَ سَعيهُ وَاجْتِهادهُ وَنَصَبهُ فِي الاشْتِغَالِ بِأقْوالِ غَيرهِ- أيْ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم- وتَقْرِيرِهَا، والغَضَبِ وَالْمَحبَّةِ لَهَا، وَ الرِّضَا بِها وَ التَّحَاكُمِ إليْهَا، وَعَرْضِ مَا قَالَهُ الرَّسُولُ عَليهَا، فَإنْ وَافَقهَا قَبِلهُ، وَإنْ خَالفهَا التَمَسَ وُجُوه الْحِيَلِ وَبَالَغَ فِي رَدِّهِ ليَّاً وإعْراضاً، كمَا قال تعالى (وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً)-(النساء: من الآية135)-.
وقدْ اشْتَملت هَذه الآية علَى أَسْرَار عَظيمةٍ يَجِبُ التَّنبيهُ عَلى بَعْضها؛ لِشدَّة الْحَاجَةِ إليْها؛ قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) -(النساء:135)-
فَأَمرَ سُبْحَانَهُ بِالقيامِ بِالقِسْطِ وَهُو: العَدْلُ فِي هَذه الآية، وهَذا أمرٌ بالقيَامِ بِه فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ، عَدُوَّاً كانَ أوَ وَليَّاً، وَأحَقّ مَا قَامَ لَهُ العَبْد بِقَصْدِ الأَقْوالِ وَالآرَاءِ وَ الْمَذاهبِ؛ إذْ هِيَ مُتعلِّقة بِأمرِ الله وَخَبرهِ.
فَالقيامُ فِيْهَا بِالَهَوىَ وَالْمَعْصِيَةِ مُضَادٌ لأَمْرِ الله، مُنافٍ لِمَا بَعثَ بِه رَسُولَهُ.
والقيامُ فيْها بِالقِسْطِ وَظِيْفةُ خُلَفاءِ الرَّسُولِ فِي أُمَّتهِ، وَأُمَنَائهِ بَين أَتْبَاعهِ، وَلا يَستحقّ اسمَ الأَمَانَةِ إلاَّ مَنْ قَامَ فِيْهَا بِالعَدْلِ الْمَحض، نَصيحةً للهِ وَلكتَابهِ وَلِرَسُولهِ وَلِعَبادهِ، و أولئكَ هُم الوَارثُون حَقَّاً، لاَ مَنْ يَجْعل أَصْحَابه وَنِحْلته وَمَذهبه مِعْيَاراً علَى الْحقِّ مِيْزاناً لَهُ، يُعَادي مَنْ خَالَفَهُ وَيُوالِي مَنْ وَافَقهُ بِمُجرَّدِ مُوافقتِه وَمُخَالفتهِ، فَأينَ هَذا منَ القِيَامِ بِالقِسْطِ الَّذي فَرضه الله عَلى كُلِّ أحدٍ؟ وهُو فِي هَذا البَابِ أَعْظَمُ فَرْضَاً وأكَبْر وُجُوباً.
ثم قَالَ (شُهَدَاء للهِ): الشَّاهدُ هُو: الْمُخْبِرُ، فإنْ أخبرَ بِحقٍّ فَهُو شَاهدُ عَدْلٍ مَقْبُول، وإنْ أَخبرَ بِبَاطلٍ فَهُو شَاهدُ زُورٍ، وَ أمرَ تَعالى أنْ يكونَ شَهيداً لَهُ مَع القيَامِ بِالقِسْطِ، وَهَذا يَتَضمَّنُ أنْ تَكُونَ الشَّهَادةُ بالقِسْطِ، وأنْ تَكُونَ للهِ لاَ لِغيرهِ، وقالَ في الآية الأخرى (كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَداءَ بِالقِسْطِ)- (المائدة:8)-، فَتَضمَّنت الآيتان أُموراً أربعة:
أحدُها: القِيَامُ بِالقِسْطِ.
الثَّاني: أنْ يَكونَ لله.
الثَّالثُ: الشَّهادةُ بِالقِسْطِ.
الرَّابعُ: أنْ تَكُونَ للهِ.
واخْتَصَّتْ آيَة النِّسَاءِ بِالقِسْطِ وَالشَّهَادَةِ للهِ، وآية الْمَائدةِ بِالقِيَامِ للهِ وَ الشَّهَادَةِ بِالقِسطِ، لِسِرٍّ عَجِيْبٍ مِنْ أَسْرَارِ القُرْآنِ لَيس هَذا مَوضع ذكْرهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعالى ( وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ ) فأمرَ سُبْحَانهُ أنْ يُقَامَ بِالقِسْطِ وَ يُشْهدَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، وَلَو كَانَ أَحَبَّ النَّاسِ إلَى العَبْدِ؛ فَيَقوم بِالقِسْط علَى نَفسهِ وَ وَالِدَيهِ الَّلذين هُمَا أَصْلهُ، وَ أَقَاربهِ الّذينَ هُم أَخَصُّ بهِ، وَ الصَّدِيقِ مِنْ سَائرِ النَّاسِ، فَإنْ كَان مَا فِي العِبْدِ مِنْ مَحبَّةٍ لِنَفسهِ وَلِوَالديهِ وَ أَقْرَبِيه يَمْنعهُ مِنَ القِيَامِ عَليهم بالْحقِّ وَلاَ سِيَّمَا إذَا كَانَ الْحَقُّ لِمَن يُبْغِضهُ وَيُعَاديهِ قبلهمْ، فَإنَّهُ لاَ يَقومُ بِه فِي هَذا الْحَالِ إلاَّ مَنْ كَانَ اللهُ وَ رَسُولُهُ أَحبّ إليهِ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُمَا.
وهَذا يَمْتَحِنُ بِهِ العَبْدُ إِيْمَانَهُ، فَيَعرف مَنْزِلَةَ الإيْمَان مِنْ قَلبهِ وَ مَحَلّه منْهُ، وَعَكسُ هَذا عَدلُ العَبْدِ فِي أَعْدائهِ وَمَنْ يَجْفُوه، فإنَّهُ لاَ يَنْبغي أنْ يَحْمِلَهُ بُعْضُهُ لَهُم أنْ يَحِيْفَ عَليهمْ، كمَا لاَ يَنْبَغي أنْ يَحْملَهُ حُبُّهُ لِنَفْسهِ وَوَالديهِ وَأقَارِبِهِ عَلَى أنْ يَتْرُكَ القِيَامَ عَليْهم بِالقِسْطِ، فَلا يُدْخِله ذَلكَ البُغْضُ فِي بَاطلٍ، وَلاَ يَقْصُرُ بِهِ هَذا الْحُبُّ عَنِ الْحقِّ، كمَا قَال بَعضُ السَّلفِ ( العَادِلُ هُو الَّذي إذَا غَضِبَ لَمْ يُدْخِلْهُ غَضَبُهُ فِي بَاطلٍ، وإذَا رَضِيَ لَمْ يُخْرِجْهُ رِضَاهُ عَنِ الْحَقِّ ).
فاشْتَملت الآيتَان عَلى هَذين الْحُكْمَيْن،وَهُما:
القِيَامُ بِالقِسْطِ، وَالشَّهَادَةُ بِهِ، عَلَى الأَوْليَاءِ وَالأَعْدَاءِ..".

4/ الأمَانَةُ.
إنَّ تَحقيقَ الأمَانَةِ فِي نَقْلِ قَولِ الْمُخَالِفِ لِلرَّدِّ عليهِ هُوَ مِنَ (العَدْلِ) الْمُتَقدِّم بَيانهُ، وَ الإخْلاَلُ بِه نَوْعُ ظُلمٍ، ومِمَّا سَبَقَ أيضاً أنَّه يَجبُ أنْ يكونَ القَصد وَالغَرَضُ مِنَ الرَّدِّ (ا لوصُول إلى الْحَقِّ ).
وهَذَا الْمَسْلَك قَدْ سَلَكهُ أئمَّة أهل السُّنَّة مَعَ الْمُخَالِفين جَمِيْعاً، فَيَذْكُرُونَ أَقْوالهم مِنْ غَيْرِ إخْلاَلٍ، ثُمَّ يَكرُّون عليهَا بِالرَّدِّ والدَّحْضِ.
قالَ شَيخُ الإسلام ابن تيميَّة في (الجواب الصَّحيح)(1/99):" وأنَا أَذْكُرُ مَا ذَكَروهُ بِأَلْفَاظِهِمْ بِأَعْيَانِهم فَصْلاً فَصْلاً، وَ أُتْبِعُ كُلَّ فَصْلٍ بِمَا يُنَاسبهُ مِنَ الْجَوابِ فَرْعَاً وَأَصْلاً، وَعَقْداً وَحَلاً..".
و قالَ في مَوطنٍ آخر :" وهذه ألفاظهم بأعيانها" (الجواب الصَّحيح)(3/28).
وقال في (الرَّدِّ على الإخنائي)(ص 111):" ولكنْ لَمَّا كَانَ هَذا صنَّفَ مُصنَّفاً وأَظْهَرَهُ وشَهَرهُ، لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ حِكَايَةِ أَلْفَاظِهِ وَ الرَّدِّ عَليهِ وَ عَلَى مَنْ هُو مِثْلهُ، مِمَّن يَنْتَسِبُ إلَى عِلْمٍ وَدِيْنٍ، وَيَتكلَّمُ فِي هَذهِ الْمَسألةِ بِمَا يُنَاقِضُ دِيْنَ الْمُسْلِمْين، حَيثُ يَجْعَلُ مَا بَعَثَ اللهُ بِهِ رَسُولَهُ كُفْراً، وهَذَا رَأْسُ هَؤلاءِ الْمُبَدِّلينَ، فَالرَّدُّ عَليهِ ردٌّ عَليْهم".

وقالَ الإمامُ الهمام ابنُ القيم في مقدِّمة كتَابه العظيم (هداية الحيارى)(ص 39):"... وضمَّنتُه أَجْوبَةَ الْمَسائلِ وَتَقرير نُبوَّة مُحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، بِجَميعِ أَنْواعِ الدَّلائل، فجَاءَ بِحَمْدِ الله وَ منِّهِ وَتَوْفيقهِ كِتَاباً مُمْتِعَاً مُعْجباً، لاَ يَسْأمُ قَاريهِ، وَلاَ يَمَلُّ النَّاظر فيهِ...يُعطيكَ مَا شئتَ مِنْ أَعْلاَمِ النُّبوَّةِ وَ بَراهين الرِّسَالَةِ، وَبِشَارات الأنْبِيَاء بِخَاتِمهِمْ، وَاستْخِرْاجِ اسْمهِ الصَّرِيْح مِنْ كُتُبهمْ، وَذكر نَعتهِ وَصِفَتهِ وَ سِيرَتهِ مِنْ كُتُبهمْ، وَالتَّمييز بَين صَحيحِ الأَدْيَان وَ فَاسِدِهَا، وَكَيْفِيَّة فَسَادِهَا بَعدَ اسْتِقَامَتهَا،وَجُملة مِنْ فَضَائحِ أَهْلِ الكِتَابَيْن وَمَا هُمْ عَليهِ، وأنَّهُم أَعْظَمُ النَّاسِ بَراءَةً مِنْ أَنْبِيَائِهم،وأنَّ نُصُوصَ أَنْبِيَائِهم تَشْهدُ بِكُفْرِهم وَضَلالِهمْ، وَغَير ذَلكَ مِنْ نُكَتٍ بَدِيْعَةٍ لاَ تُوجدُ فِي سِوَاهُ".

5/ التَّثبُّت.
إنَّ تَحقيقَ هَذا الأَمْر أيضاً مُتَعلِّقٌ وَمُرتَبِطٌ بِمَا سَبَق فِي النُّقطة رقم (3) الْمُخْتَصَّة بِـ(العَدْلِ)؛ إذْ العَدَالةُ تَقْتَضي أنْ يَتَثَبَّتَ الرَّادُّ مِنْ قَولِ أَوْ كَلاَمِ الْمَرْدُودِ عَليهِ، بإحدىَ طُرقِ الإثْباتِ الصَّحيحة؛ لِيَصحّ حُكمهُ وَنَقْدُهُ.
و هذا الأمرُ أعني (التَّثَبُّت) مِنَ القَواعدِ الْمُقَرَّرة لدَى أَهْل السُّنَّة، وهُو يَدلُّ عَلَى نَزَاهتهم وَعَدْلِهم وَ إنْصَافِهم، لكنَّ هَذه القَاعدة وَ(العَدْلُ) وَ(الإنْصَافُ)، وَنَحوها مِنَ القَواعدِ وَالأُصُولِ الْمُتَرابطة السُّنِّية العَظيمة، حَاولت بَعْضُ الفِئَامِ قَلْبَ حَقَائِقَها وَتَزْويرهَا عَنْ أُصُولِهَا السُّنِّية، فَشَغَّبوا بِهَا عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ ظنَّاً منْهُم أنَّ الأمْرَ يَنْطَلِي وَيَمرّ مِنْ غَيْرِ نَخْلٍ وَكَشْفٍ وَإِبْطَالٍ، وَالله غَالبٌ عَلَى أَمْرِهِ.

فَهَذا الأصل السُّنِّي قَدْ تَكَلَّمتُ عليه مُفصَّلاً فِي ردِّي عَلَى المشغِّبِ بِالبَاطِلِ أَبِي الْحَسنِ مُصْطَفى بن إسماعيل المأربي المصري في كتابي (الفتح الرباني في الرد على أبي الحسن السليماني) (الثابت الثاني: التثبت) من (ص218-233)، وذَكَّرتُ هُنَاك بأمورٍ تَتعلَّق بتَحَقِيْقِ هَذَا الأصلِ، وَبَعض طُرق إِثْبَاتهِ لدَى أَهْل السُّنَّةِ، وَالَّتِي منْها: ( أَوَّلاً: الرِّحْلَةُ فِي طَلبِ الْحَديثِ، وَالعنَاية فِي النَّقْل)و(ثَانياً: قَبولُ خَبَر العَدْلِ) وَلكَشْف عَنْ حَالِ الرَّجُل الْمُخَالِفِ مِنْ خِلالِ كُتُبهِ وَمُصَنَّفَاتهِ) وَ (إعْمَال قَاعدة: بَلَديّ الرَّجُل أَعْرَف بِه).

فأكْتَفي بهِ عَن التِّكرار هُنا، والله الموفق.

6/ عَدَمُ ردِّ البَاطل بِبَاطِلٍ، وإنَّما يُرَدُّ البَاطل بالْحَقِّ.
سبقَ أنْ ذَكرتُ أنَّ المقصودَ مِنَ الرَّدِّ عَلَى الْمُخَالِفِ (الوصُول إلى الْحَقِّ وَبيانه) وَردِّ الباطل ودَحْضهِ، فَيُؤدِّي الْمُفْروضَ عليهِ بتجرُّدٍ تامٍّ لله جلَّ وعلاَ، قَالَ العلاَّمة السجزيُّ في (الرَّد عَلى مَنْ أنكر الحرف والصَّوت)(ص 235):" قَالَ الحسن: المؤمنُ ينشرُ حِكْمَة الله، فإنْ قُبِلتْ منْه حَمِد الله، وإنْ رُدَّت حَمِدَ الله.
- قَال السِّجزيُّ معلِّقاً- وَمَوضِعُ الْحَمدِ فِي الرَّدِّ أنَّهُ قَدْ وفِّق لأدَاءِ مَا عَليهِ".

لذَا فَأهلُ السُّنَّة سَمْتُهم وَ سِيْمَاهُم أَبداً ( لُزُومُ الْحَقِّ، وَ اتِّباعُهُ )، فِي كلِّ شأنٍ مِنْ شُؤون أُمُورهم، ومنْها الرَّد عَلَى الْمُخَالِفِ، وَلا حَاجة فِي رَدِّ بَاطلهِ بِبَاطلٍ آخر، وقَد سَبق نَقْلُ تَحذيرُ بَعض الأئمَّة مِنْ ردِّ البَاطلِ بباطلٍ؛ كَالإمام الآجري وكذَا الإمام ابن بطة العكبري حيثُ قالَ مُحذِّراً مِنْ ( إِرَادَة الْحقِّ مِنْ غَير طَريق السُّنَّة فإنَّه باطلٌ، وكَلامك عَلى السُّنَّةِ مِنْ غَيرِ السُّنَّة بِدْعةٌ).
وقَال الإمامُ البربهاري في (شَرح السُّنة)(رقم 157/119):" و لاَ تَطْلُب مِنْ عِنْدكَ حيلةً ترُدُّ بها علَى أَهْلِ البِدَعِ..".
وقيلَ للإمام عبدالرَّحمن بْن مَهدي:" إنَّ فُلاناً صنَّفَ كِتَاباً يَردُّ فيه على الْمُتْبَدعة.
قالَ: بِأَيِّ شَيءٍ؟ بالكتَابِ وَالسُّنَّةِ؟ قَالَ: لاَ، لَكِنْ بِعِلْمِ الْمَعْقُول وَالنَّظرِ.
فَقَال: أَخْطأَ السُّنَّةَ، وَرَدَّ بِدْعَةً بِبِدْعَةٍ" (صون المنطق)(ص 131).

وقَالَ شيخ الإسلام ابن تيمية كما في (مجموع الفتاوى)(3/322):"..وإذَا عُرفَ هَذا فَإِطْلاَقُ القَول: بِتَكْليفِ مَا لاَ يُطَاق، مِنَ البِدَعِ الْحَادِثَةِ فِي الإسْلاَمِ؛ كَإطلاقِ القَول: بأنَّ النَّاسَ مَجْبُورون علَى أَفْعَالِهم، وقَدْ اتَّفقَ سَلَفُ الأُمَّةِ وَأئمَّتُها عَلى إنْكَارِ ذَلكَ، وَذَمِّ مَنْ يُطْلقهُ وَ إنْ قَصَدَ بِه الرَّدَّ عَلَى (القَدريَّة)، الَّذين لاَ يُقرُّونَ بأنَّ الله تَعالَى خَالق أَفْعالِ العِبَادِ، وَلاَ بِأنَّه شَاءَ الكَائِنَات، وَقَالوا: هَذَا ردَّ بِدْعَةً بِبِدْعَةٍ، وَقَابلَ الفَاسِدَ بِالفَاسِدِ، وَالبَاطِلَ بِالبَاطِلِ..".

لذَا كانَ يَقُولُ شَيْخُ الإسلام ابن تيميَّة :" أنَا أَلْتَزِمُ أنَّه لا يَحْتج مُبْطِلٌ بآيةٍ أَوْ حَدِيثٍ صَحِيحٍ عَلَى بَاطِلِه إلاَّ وَ فِي نَفْسِ ذَلِكَ الدَّليلِ مَا يَدلُّ عَلى نَقِيْضِ قَولهِ" (نقله ابن القيم) في (حادي الأرواح)(ص 202).

وقَالَ الإمامُ عُثمان بن سعيد الدارمي
في (الرَّدِّ عَلى الجهميَّة) (ص 186) :"..لكنَّا نُكَفِّرُهُم بِمَا تَأوَّلْنَا فِيْهم مِنْ كتَابِ الله عزَّ وجلَّ، و روينا فيْهم مِنَ السُّنَّةِ، وَبِمَا حَكيْنَا عَنْهُم مِنَ الكُفْر الوَاضحِ الْمَشْهُورِ الَّذي يَعقلهُ أَكْثَر العَوامِّ، وَ بَما ضَاهوا مُشْركي الأُمَم قَبْلَهم بِقَولهمْ فِي القُرآن، فَضْلاً عَلى مَا رَدُّوا عَلى الله وَرَسُولهِ، مِنْ تَعْطيلِ صِفَاتهِ، وَإنْكَارِ وَحْدَانيَّتهِ، وَمَعْرفَةِ مَكانِهِ، وَاسْتِوائهِ عَلَى عَرْشِهِ بِتَأويلِ ضَلالٍ، بِهِ هَتَكَ اللهُ سِتْرَهم، وأبدَ سَوءتَهم، وعَبَّرَ عَنْ ضَمَائِرهمْ، كُلَّما أَرَادُوا بِهِ احْتِجَاجَاً، ازْدَادتْ مَذَاهبهم اعْوِجَاجَاً، وَازْدَادَ أَهْلُ السُّنَّةِ بِمُخَالَفَتِهم ابْتِهَاجَاً، وَلِمَا يُخْفُونَ مِنْ خَفَايا زَنْدَقَتِهمْ اسْتِخْرَاجاً".

وقالَ شيخُ الإسلامِ ابن تيميَّة أيضاً كما في (مجموع الفتاوى)(6/288):"فَصْلٌ: فيه قَاعِدةٌ شَرِيْفَةٌ، وَهي:
أنَّ جَميعَ مَا يَحْتَجُّ بِهِ الْمُبْطِل مِنَ الأدلَّةِ الشَّرعيَّة وَالعَقليَّة إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى الْحَقِّ، لاَ تَدلّ عَلَى قَولِ الْمُبْطِلِ، وَهَذا ظَاهرٌ يَعْرفه كُل أَحدٍ؛ فإنَّ الدَّليلَ الصَّحِيْح لاَ يَدلُّ إلاَّ عَلَى حَقٍّ، لاَ عَلَى بَاطلٍ.
يَبْقَى الكَلاَم فِي أعْيَانِ الأدلَّةِ، وَبَيانِ انْتِقَاءِ دِلاَلتِهَا عَلَى البَاطِلِ، وَدلالتهَا عَلَى الْحَقِّ؛ هُو تَفْصيلُ هَذا الإجْمَال.
وَالمقصودُ هُنا شيءٌ آخر، وهُو: أنَّ نَفْس الدَّليلِ الَّذي يَحْتَجُّ بِهِ الْمُبْطل، هُو بعينهِ إذَا أُعطي حقَّه، وَ تَمَيَّز مَا فيهِ مِنْ حَقٍّ وَ بَاطلٍ، وَبَيْنَ مَا يَدلُّ عَليهِ، وَتَبْيِن أنَّه يَدلُّ عَلَى فَسادِ قَول الْمُبْطِلِ الْمُحَتجّ بِهِ فِي نَفْس مَا احْتَج بهِ عَليهِ، وَهَذا عجيبٌ، قَد تَأمْلتُه فِيْمَا شَاء اللهُ مِنَ الأدلَّة السَّمْعية فَوجَدتُه كَذَلك".

وقالَ أيضاً في (درء تعارض العقل والنقل)(7/182):"... وأهلُ الكلام الَّذين ذَمَّهُم السَّلف لاَ يَخْلُو كَلام أَحَدٍ مِنْهُم عَلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَ رَدِّ بَعْض مَا أَخْبَر بهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم، كَالْجَهْميَّة وَ الْمُشبِّهة وَالْخَوارِج وَ الرَّوَافضِ وَالقَدَريَّة وَالْمُرْجئَةِ.
وَيُقالُ: بِأَنَّه لاَ بُدَّ أَنْ تُحْرَسَ السُّنَّةُ بالْحَقِّ وَالصِّدْقِ وَالعَدْلِ، كَمَا لا تُحْرسُ بِكَذبٍ وَلاَ ظُلْمٍ، فَإذَا رَدَّ الإنْسَانُ بَاطلاً بِبَاطِلٍ، وَقَابَلَ بِدْعَةً بِبِدْعَةٍ كَانَ هَذَا مِمَّا ذَمَّهُ السَّلف وَالأئمَّة".
وفَّق الله الجميع لما يُحبُّه ويرضاه، وصلى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وآله وصحبه وسلَّم.
يتبع بحول الله تعالى

وكتب
عبدالله بن عبدالرحيم البخاري- كان الله له-
الأربعاء/ 23/ صفر/ 1430هـ